وكالة أخبار المرأة - 5/29/2024 9:33:41 AM - GMT (+3 )
القليل من المعارض التشكيلية التي حضرتها في حياتي كانت تروي حكاية، وهذه المعارض كانت من أجمل المعارض التي شاهدتها عبر ما يزيد عن نصف قرن من الاعوام التي مرت من عمري، وحين وجهت لي الفنانة طرب أبو زهرة الدعوة لحضور معرضها الشخصي "حكاية صمت" والذي كان في بيت عرار في مدينة اربد يوم 15 أيار للعام الحالي 2023م وبتنظيم من ملتقى ألق الثقافي ورئيسته السيدة حمدة الهربيد وبالتعاون مع مديرية ثقافة اربد وحضور رئيس قسم الهيئات الثقافية الأستاذ سامي الدبيس لافتتاح المعرض، كنت أشد الرحال لقضاء يوم في رحاب الفن التشكيلي وذاكرة المكان في بيت عرار، وخلال الطريق كنت اسائل نفسي: ترى ما هي حكاية الصمت التي سترويها ريشة الفنانة؟ وخاصة أنها المرة الأولى التي سأحضر لها معرض شخصي.
من لحظة وصولي وبعد احتساء القهوة بدعوة وتكريم من مديرة بيت عرار السيدة فاطمة الصباحين كنت أجول لوحات المعرض والتي بلغت ثلاث وعشرين لوحة وأستمع منها همساتها وأناتها وهي تروي الحكاية، حكاية المرأة المعنفة والتي تحلم بالسكينة والطمأنينة في بيتها، بعيدا عن العنف والقمع الذي تعانيه، ومن هنا نجد أن الفنانة في لوحاتها تناولت قضية اجتماعية مهمة، من حيث الواقع الاجتماعي وتنمر الذكورية على المرأة، ومن الجوانب النفسية التي مثلتها شخصية المرأة في لوحاتها، معتمدة في روايتها التكوين اللوني والريشة والأسلوب، وكان لكل لوحة اسم يعبر عن تسلسل حكايات الرواية، حكاية الصمت التي روتها بصمت من خلال لوحات تتحدث ولا تصمت.
يلاحظ أن المرأة كانت هي الموضوع الظاهر في ثلاث عشرة لوحة من اللوحات، بينما الخيول التي رمزت بها للمرأة كانت في ستة لوحات، وكانت هناك لوحة واحدة ترمز لبيت المرأة المعنفة ولوحة واحدة تشير لواقع المجتمع ولوحة رمزية تعبيرية تشير للعلاقة بين الطرفين ولوحة واحدة تشير للواقع الذي تعيشه المرأة في بيتها رغم كل المعاناة، ومن خلال هذه اللوحات سنستمع لهمسات بعض اللوحات، مع المرور السريع على باقي اللوحات لتروي جميعها لنا حكاية الصمت التي كتبتها ورسمتها الفنانة التشكيلية طرب من خلال الريشة واللون.
اللوحة الأولى: وقد أسمتها "أنا لا أعيش يومي، أنا أنجو منه فقط" وفيه صورت امرأة جميلة تضع أحمر الشفاه وطلاء الأظافر وتسدل شعرها الناعم على كتفيها، وترتدي رداءً أنيقاً يكشف عن ذراعيها ومساحة من أعلى الصدر، في رمزية إلى أن المعنفة ليست من تعيش ظروف اقتصادية أو اجتماعية متعبة فقط، بل ربما تكون سيدة تعلمت وتعيش بظروف اقتصادية واجتماعية جيدة، والمرأة في اللوحة تضع يديها على وجنتيها وملامح الحزن تظهر على وجهها من أسفل العينين حتى الذقن، فالعينان تغطيهما عصبة سوداء معتمة برمزية واضحة إلى الواقع الذي تحياه والظلم الذي تعيشه.
ونرى أن طرف العصبة بدأ بالانفكاك وكأنه يتعرض لريح بدأت تعصف به، وهذه إشارة رمزية أن تحرر المرأة بدأ لتعود مكرمة كما يجب أن تكون وكما نص عليها الدين الحنيف، هذه الحقوق التي أضاعتها ظلامية المجتمع وعدم الوعي الذكوري أن المرأة هي النصف الآخر للذكر، وخلفية اللوحة وفضائها اعتمدت اللون الفاتح مع ضربات فرشاة بالأزرق والرصاصي الفاتح، ترمز من خلالها أن المنغصات والتعنيف والتنمر هو من يشوه حلم المرأة والواقع الذي تريده بطمأنينة واحترام وتقدير، مع الإشارة أن الفنانة كانت متمكنة برسم ملامح الوجه وتشريح الأصابع بدقة وإتقان تشير لموهبة وقدرة فنية جيدة.
اللوحة الثانية: وحملت عنوان "فقدت بعضي وأنا أبحث عنه" وهذ العنوان يثير السؤال أين تبحث؟ وحين نتأمل اللوحة نرى الجواب وهو أنها تبحث عن بعضها في عالم الجمال وسحر الطبيعة، حيث نجد في اللوحة المرأة تقف على حافة جدول ماء يخترق غابة بشكل جانبي بدون أن يظهر وجهها، برداء أزرق مريح للنفس وشعر منسدل على الظهر بتسريحة بسيطة وجميلة، تنظر للجدول والأشجار بتأمل حالمة بأن تكون حياتها بهذا الجمال بعيدا عن التعنيف والتنمر، ومن خلال الاسقاط الضوئي نجد أن قلب اللوحة حيث تنظر المرأة هو المنير واللون الأخضر حيث مسقط الضوء مثير للبهجة، بينما الجانب الأيمن معتم والأيسر أكثر اضاءة والأرض.
ونلاحظ أن المرأة تقف على الجانب الحافل بأوراق الشجر المتساقطة والجافة بلون أقرب للأحمر وليس الأصفر، رغم أن المشهد ربيعي وليس خريفي حتى تتساقط أوراق الشجر، ولكنها رمزية للجفاف العاطفي الذي تعيش فيه ولكنها تحلم بالسماء الصافية كما أفق اللوحة، كما نلاحظ اهتمام الفنانة بالتكوين اللوني وتدرجاته للون الأزرق، حيث السماء بلون أزرق مثير للبهجة وموشح ببياض الغيوم، والجدول يشوبه التعكر فيخفي زرقته بينما الرداء بلون البحر الذي تكتنفه الأمواج، برمزية واضحة للثورة والموج في روح المرأة والتعكر في حياتها وحلمها بالجمال والصفاء، كما لجأت للتكوين اللوني ورمزيته بالغابة بأطرافها الثلاث وأوراق الأشجار المتساقطة.
ومن ثم تنقلنا الفنانة إلى اللوحة السابعة وعنونتها: "لا تنس أني بذلت الكثير حتى لا نصبح غرباء"، وهذه اللوحة والتي رسمت بالألوان الداكنة تعبر بدقة عن حكاية الصمت التي ترويها لنا الفنانة، فهنا نجد امرأة تجلس على حافة الطريق رغم برودة الجو حيث يظهر الجو من خلال ارتدائها المعطف والحذاء الطويل الواقي من المطر، وهي تنظر للخلف باتجاه ذكر يسير بدون الالتفات اليها ولا الاحساس بمعاناتها، وهو يضع يديه على خاصرتيه بمشهد يشير للقسوة في التعامل معها حتى أصبحا غرباء رغم كل ما قدمته لكي لا يصلا لهذه المرحلة، ونلاحظ في اللوحة اعتماد الفنانة على التباين اللوني بين مكان المرأة المعتم ومكان الذكر المضيء، وهذه لوحة من اثنتين من كل اللوحات التي يظهر بها رمز ذكوري حيث كانت المرأة هي الطاغية على معظم اللوحات.
في اللوحة العاشرة "يرتدون ثياب الحملان" تظهر خمسة نماذج ذكورية من المجتمع منها ثلاثة يرتدون لباس المهرجين ويضعون الأصباغ والأقنعة على الوجوه، بينما خلفهما ذكرين أحدهما بأصباغ تظهره كأنها "دراكولا" مصاص الدماء والآخر بملامح قاسية تظهر الوجه الحقيقي لهذه الفئة، بينما خلفية اللوحة سوداء في رمزية لظلامية المجتمع الذي أتوا منه، لنرى الفنانة في اللوحة الحادية عشرة وعنوانها: "فأجدني مقيدة من جديد" تعطينا وجها جميلا آخر لإمرأة ذات شعر أسود منسدل وعينان مغمضتان، والتي رغم جمالها ورقيها من خلال زينتها وملامحها إلا أن ملامح القهر تظهر عليها وهي تمسك بيدها سلاسل معدنية تحيط بجسدها وتثبته على الحائط الرمزي للمعاناة، في رمزية أنها رغم كل محاولاتها السابقة لبناء علاقة ايجابية مع الآخر تجد انها مقيدة من جديد، فحائط الصد الذكوري أكبر من قدراتها ومحاولاتها.
تواصل الفنانة سرد حكاية الصمت فنجدها في اللوحة الثانية عشرة والتي أسمتها "ويشهد الله أنا كنا صادقين حتى خذلنا"، وفي هذه اللوحة خرجت من رواية المرأة الواحدة لجميع النساء، فقاعدة اللوحة خمس نساء يلفهن وشاح الظلام المتوشح بالنار كما إعصار، ونرى أن النساء من بيئات مختلفة فهناك المحجبة وغير المحجبة، وفي أفق اللوحة امرأة جميلة بعينين زرقاويين ودموعها تسيل من القهر المحيط بها مع ذلك تنظر بإصرار وبدون خنوع، ونرى أن الفنانة استخدمت التكوين اللوني ورمزية اللون لايصال الفكرة سواء بالقهر للمرأة الرمز في الأعلى أو بالوشاح الذي يحيط النساء بقاعدة اللوحة، فنجد الأفق المحيط بوجه المرأة كأنه براكين مشتعلة، وهنا المرأة الباكية مثلت مجتمع النساء بغض النظر عن البيئة وليس ذاتها فقط، لكن ورغم ذلك فهناك بارقة أمل حيث نجد النور ينعكس على وجه المرأة التي تعاني لينثال كطاقة من نور عليها وعلى باقي النساء، وهن يشهدن الله انهن كن صادقات في حياتهن حتى خذلن.
وفي اللوحة الثامنة عشرة بعنوان: "لم أطلب يدا تمسح دموع الفزع" تتألق بلوحة لفرس تسيل منها الدماء ولكنها تسير نحو الضوء والحرية بعنفوان، وتكمل في اللوحة التاسعة عشرة تحت عنوان: "أضعت في وسط الصحراء قافلتي" وفي اللوحة العشرين بمسمى: "واهجروني فربما صرت حرا لا يقدس أمرا" وفي اللوحة الحادية والعشرين وهي اللوحة الوحيدة بدون عنوان، حيث تواصل الفنانة استخدام رمزية الخيل للتعبير عن المرأة وروي حكاية الصمت فالخيول تتألم وتصهل ولا تتكلم، حتى تصل بنا الى اللوحة الثانية والعشرين وأسمتها: "مع خيوط الشمس" حيث فرس وجواد يركضان مع الفجر والخلفية من أسفل اللوحة حتى أعلاها وكأنها موج بحر أو عواصف، في حلم للمرأة أن تكون هي والذكر في انسجام وتوافق بعيدا عن التعنيف والتنمر والذكورية التي لا علاقة لها بالرجولة، لتنهي المعرض بلوحة اسمتها: لا أخطها بالحبر" وهي لوحة لتنور خبز وأرغفة طازجة فيه وخارجه، وكأنها تريد أن تترك لنا النهاية مفتوحة بالقول: رغم كل المعاناة فالمرأة لا تتوقف عن واجبها تجاه أسرتها، أو تريد القول: ومع كل الثورة للمرأة على الظلم إلا أن المجتمع يصر أن يضعها في زاوية محددة.. الخدمة والبيت.
وهكذا اجد أن الفنانة والتي امتلكت الموهبة منذ الطفولة وصقلتها على يد الفنان التشكيلي محمود أسعد، لم تدرس الفن في كلية فنون وكانت دراستها في كلية المجتمع العربي في عمَّان لمادة مختلفة، وكان هذا معرضها الشخصي الثاني إضافة لمشاركات كثيرة في معارض جماعية، تمكنت بجدارة في معرضها أن تنضم للرائدات من الفنانات التشكيليات اللواتي أبدعن في التعبير عن المرأة في لوحاتهن، ومنهن نجاة مكي وزينب السجيني وعائشة الفيلالي ومها الذويب، وحفصة التميمي وصفاء العطياوي وفخرية اليحيائي وجينا نحلة وملاذ حشمو وملاك العبار، والعديد من الفنانات التشكيليات المبدعات على مستوى الساحة العربية، وأصبح لها بصمة ستضعها إن واصلت مسيرتها في صفوف التشكيليات الرائدات.
إقرأ المزيد