الحب في ظل الرأسمالية: عندما تتحول المشاعر إلى سلعة
هذا اليوم -

في ظل الهيمنة الرأسمالية، لا ينجو شيء من التحول إلى سلعة، حتى أعمق المشاعر الإنسانية. الاحتلال الأمريكي للعراق في ٢٠٠٣ لم يكن مجرد عملية عسكرية، بل كان أداة عنيفة لإدماج قوى بشرية وموارد جديدة في آلة الاستغلال العالمي، وضمان سيطرة رأس المال الأمريكي وشركائه على منطقة إستراتيجية. لكن هذا المشروع لم يقف عند الاقتصاد والسياسة والجغرافية، بل امتد ليُعيد صياغة الوعي والعلاقات الإنسانية ذاتها، محولاً الحب من حلقة تضامن طبيعي إلى أداة لإعادة إنتاج النظام الطبقي.

إن العلاقات الإنسانية، بما فيها العلاقات العاطفية والأسرية، تشكلها وتحددها علاقات الإنتاج السائدة التي تديرها الطبقة الحاكمة.

وقبل الانغماس في تحليلنا النقدي، لنقف لحظة أمام الظاهرة ذاتها التي نحاول حمايتها من الاختزال: الحب الرومانسي بكل قدسيته وجماله. هذا الحب الذي ظل عبر العصور أعظم ألغاز الوجود الإنساني، القادر على تحويل الروتين إلى شعر، والعادي إلى استثنائي، والزائل إلى خلود في الذاكرة. إنه ذلك الانفجار الداخلي الذي يجعل الإنسان يرى العالم لأول مرة، ليس بعينيه وحدهما، بل بعينين أخرين تشاركانه النظر. إنه التوحد الغامض حيث يختفي الفرد ليبقى الثنائي، ليس كجمع حسابي، بل ككيمياء تولد كيانًا جديدًا.

أسراره لا تُحصى: كيف يمكن لومضة عين أن تروي تاريخًا؟ كيف تتحول اللمسة إلى لغة أعمق من الكلمات؟ كيف يصبح الصمت حوارًا؟ وكيف يتحول الانكسار في حضوره إلى اكتمال؟ هذا الحب هو الثورة الروحية الأولى للإنسان، حيث يتعلم الافلات من ذاته الضيقة نحو فضاء "نحن" الرحب. إنه مدرسة التضحية غير المحسوبة، والشفافية التي لا تخشى الضعف، والهبة التي تفرح بالعطاء أكثر من الأخذ.

في حضرته، تتعطل قوانين المنطق الرأسمالي: فأغلى الهدايا قد تكون زهرة بسيطة، وأعظم الاستثمارات هو الوقت المهدر في الحضور، وأكبر الربح هو الخسارة الطوعية للذات في بحر الآخر. هذا التناقض الجميل هو ما يجعل منه أقوى مقاومة للاختزال المادي. إنه يذكرنا، في خضم آلة الإنتاج والاستهلاك، بأننا كائنات قادرة على التقديس، على اختيار شيء لا يُسعّر، على الانتصار للغزِ على الحساب، وللجمالِ على المنفعة.

لذلك، حين ندافع عن قدسية الحب الرومانسي، فإننا لا ندافع عن مجرد عاطفة، بل ندافع عن إحدى أعلى درجات الوعي الإنساني، عن تلك القدرة الفذة على خلق عالم مشترك قائم على الحرية المطلقة في الاختيار، والثقة العمياء، والجمال غير المشروط. إنه البرهان الحي على أن الإنسان، رغم كل محاولات تشييئه، يظل قادرًا على الخلق والسمو فوق مادية العالم. وهذا بالضبط ما يجعل استعادته من براثن الرأسمالية ضرورة وجودية، قبل أن تكون نضالًا اجتماعيًا

الغزو الثقافي الذي رافق الاحتلال، عبر الإعلام والسينما والغناء، لم يكن ترفيهيًا بريئًا. لقد كان أداة إيديولوجية فعالة لغرس قيم الفردية الأنانية والمنافسة والاستهلاك. تم تقديم نموذج "الحب" كمشروع فردي يهدف الى "السعادة الشخصية" المحددة بالرفاه المادي والمنزل الفاخر والاستقرار الاقتصادي. بذلك يتلاشى الانتباه عن العدالة الاجتماعية والصراع الطبقي الى البحث عن "الخلاص الفردي" عبر علاقة خاصة. هذه العملية تُفكك الوحدة الجماعية، مما يخدم مصالح الطبقة الحاكمة التي تسعى لإبقاء الجماهير مشتتة ومنشغلة بصراعاتها الشخصية.

لذلك عندما يصبح الزواج مؤسسة اقتصادية قبل كل شيء، وعندما تُقاس قيمة الصداقة بمنفعة كل طرف، فإن أساس التضامن الاجتماعي ينهار. الرأسمالية تفضل الأفراد الأنانيين، لأنهم أضعف في مواجهة نظام الاستغلال، وأكثر استهلاكًا كوحدات منفصلة، وأقل ميلاً لتنظيم أنفسهم للمطالبة بحقوق جماعية. إن انهيار العلاقات الإنسانية الحقيقية يؤدي لاستمرار تراكم رأس المال، لأنه يحول المجتمع إلى مجموعة من ذرات متفككة يمكن استغلالها والسيطرة عليها بسهولة أكبر.

في المقابل، أن الحب الحقيقي هو شكل من أشكال التضامن الإنساني الخالي من المنفعة. إنه تعبير عن الطبيعة الاجتماعية للإنسان، عن حاجته للارتباط والتعاون والعطاء غير المشروط. هذا الحب موجود في قلب الصداقة، في العلاقات الأسرية الحقيقية الخالية من حسابات الميراث والمنفعة.

تحرير الحب لا يمكن أن يتم بمعزل عن تحرير المجتمع بأسره. وتحرير المجتمع بحاجة الى نظام سياسي يرعى هذا الهدف، حيث يُلغى منطق الربح والمنافسة كقانون رئيسي للحياة، تُفك العواطف من قيود التبادل السلعي. عندها فقط يمكن للحب أن يزهر كعلاقة إنسانية خالصة، قائمة على التقدير المتبادل والتكامل والحرية الحقيقية، وليس على الخوف من الفقر أو البحث عن المنفعة.

الدفاع عن الحب الحقيقي اليوم، في ظل هجمة الرأسمالية المعولمة، هو فعل ثوري بحد ذاته. عندما نرفض أن نحب أو نختار شريك الحياة بناءً على "مصلحتنا"، وعندما نبني علاقات صداقة قائمة على التضامن الحقيقي، فإننا نقاوم منطق النظام السائد. نضالنا من أجل عالم أكثر عدلاً، حيث توزع الثروة بشكل عادل وتُلغى فيه علاقات الاستغلال، هو في النهاية نضال من أجل عالم نستطيع فيه أن نحب بحرية.

الحب هو شرارة اندلاع الثورة كما قال جيفارا.



إقرأ المزيد