هذا اليوم - 12/12/2025 2:58:21 PM - GMT (+3 )
من ملتقى تونس للرواية العربية (خدمة الملتقى)
تعود هذه التظاهرة الأدبية لتعلن عن مرحلة جديدة من حضور الرواية العربية في المشهد الثقافي التونسي، حاملة هذا العام محوراً مركزياً لافتاً هو "الحلم في الرواية العربية".
لا يأتي هذا الاختيار بوصفه عنواناً جمالياً وحسب، بل كمحاولة لإعادة التفكير في الوظيفة العميقة للحلم داخل النص الروائي، ولتأمل كيف أصبح الخيال، في عالم مضطرب، فضاءً لازماً لإعادة تشكيل الذات العربية. وبدعم من وزارة الشؤون الثقافية وبمشاركة واسعة لروائيين ونقاد عرب، تعيد تونس بهذا الملتقى ترسيخ موقعها كمنصة للحوار السردي وفضاء مفتوح لإنتاج الأسئلة الجديدة.
تقليد وإختبار
يمثل ملتقى تونس عودة لتقليد ثقافي كان انطلق بدورتين ناجحتين عامي 2018 و2019، قبل أن يتوقف بسبب الجائحة. وحرص بيت الرواية بإدارة يونس السلطاني على استئناف هذا الموعد الأدبي الذي أثبت قدرته على جمع الأصوات السردية العربية داخل فضاء واحد. وفي تصريح إلى "اندبندنت عربية"، يؤكد السلطاني أن اختيار موضوع الحلم لهذه الدورة لم يكُن اعتباطياً، قائلا: "تعيش الرواية العربية مرحلة من الهشاشة أمام واقع مضطرب، ولهذا أصبح الخيال حاجة وجودية لا جمالية فقط. الحلم اليوم ليس ترفاً سردياً، بل طوق نجاة يعيد للكاتب صوته ولمجتمعه القدرة على التخيل".
ووفق هذا التصور، يتحول الملتقى إلى مختبر للخيال العربي، تتقاطع فيه الرؤى الفردية لتشكل سؤالاً جماعياً حول علاقة الأدب بالواقع والذاكرة والمستقبل، وتصبح سرديات الحلم مدخلاً لفهم التحولات التي يعيشها الإنسان العربي اليوم.
الحلم واللاوعي العربي
افتتح الملتقى أعماله بمدخل نظري يضع الحلم داخل بنيته السردية، فقدم محمد الخبو من تونس ورقة تأصيلية بعنوان "تسريد الحلم في الرواية العربية"، بيّن ضمنها كيف انتقل الحلم من عنصر رمزي أو زخرفي في النص إلى أداة معرفية تكشف عن اللاوعي العربي وتتعامل مع ما لا يقوله الواقع صراحة. ويمتد هذا المسار التحليلي عبر مداخلات متنوعة، إذ قدمت سهير المصادفة (مصر) قراءة ذاتية تحت عنوان "من رحم أحلامي وكوابيسي"، كشفت خلالها عن اللحظة الحلمية الأولى التي يولد منها النص، بينما تناولت زهور كرام (المغرب) الحلم من زاوية سيميائية تربط بين الزمن والبناء الشخصي. وقدم فهد العتيق (السعودية) رؤية عن "خلايا أحلام وتأملات نائمة"، فيما حلل ماهر مجيد إبراهيم (العراق) التحولات السردية لبنائية الحلم.
ويشكل هذا المحور لوحة مفهومية واسعة، يرى من خلالها الملتقى أن الحلم ليس غياباً للعقل، بل وثيقة داخلية للوعي العربي ومرآة تعكس ما لا يستطيع الواقع التصريح به.آلية مقاومة وتحرير
لا يتعامل الروائي العربي مع الحلم كفضاء هروبي، بل كأداة مقاومة للواقع ووسيلة لإعادة بناء الذات. وهذا ما تسعى إليه الجلسات التي تبرز دور الحلم في مواجهة هشاشة الزمن المعاصر.
وتقدم اليوم آمنة الرميلي (تونس) ورقة بعنوان "في ما يرى السارد" تستكشف فيها المواجهة الداخلية بين السارد وذاته في منطقة التماس بين الرؤيا واليقظة، وناقش أيمن العتوم (الأردن) ضرورة الحلم في الرواية العربية وقدرته على إعادة تشكيل الوعي. وتعرض لولوة المنصوري (الإمارات) رؤيتها عن المخيلة المائية في ورقتها "ماء يحلم بالأرض"، كاستعارة لسيولة النص بين الواقع والحلم. ويستعرض زهران القاسمي (سلطنة عمان) تجربة العيش في عالمين متوازيين، ويقدم عمر حفيظ (تونس) قراءة في أحلام شخصياته ضمن روايتيه "ليلة بيضاء" و"صديقي رضا لينين"، فيما يتناول محمد الأمين (موريتانيا) خصوصية الحلم الموريتاني في الرواية. وتتجمع هذه المداخلات لتؤكد أن الحلم في الرواية العربية هو إعادة امتلاك للعالم، لا انسحاب منه.
اقرأ المزيديحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويمتد النقاش إلى مستويات أعمق، فيتحول الحلم إلى سؤال وجودي يتعلق بالذات العربية اليوم. وتقدم نور الهدى باديس (تونس) ورقة بعنوان "الرواية: دفق الأحلام وحواجز الانكسار" تقرأ فيها نماذج تونسية تكشف عن العلاقة المعقدة بين الحلم والانكسار.
وتتعمق عائشة إبراهيم (ليبيا) في جماليات الحلم في الرواية الليبية بما تكشف عنه من تحولات اجتماعية ونفسية، بينما يقترح رضا الأبيض (تونس) النظر إلى الرواية على أنها مختبر للأحلام. ويسهم عبدالله الحسيني (الكويت) في تحليل الحلم كلغة بديلة للتعبير عن الوعي والذاكرة، فيما يواصل مجدي بن عيسى (تونس) الكشف عن العلاقة بين الحلم والتجريب في النص الحديث. هكذا يتحول الحلم إلى مرآة فلسفية تعيد طرح السؤال، كيف يرى الإنسان العربي نفسه؟
وتولي الجلسات اللاحقة اهتماماً بالعلاقة بين الحلم والرمز، فتقدم نجوى بركات (لبنان) قراءة في تجربة العبور بين الوعي واللاوعي، بينما يحلل محمود النجار (فلسطين) حضور الأحلام في المشروع الروائي لإبراهيم نصرالله. ويبحث إسماعيل يبرير (الجزائر) كيف يمكن للحلم أن يتحول إلى حيلة جمالية في مواجهة مأزق السرد، ويستعرض محمد الغربي عمران (اليمن) الحلم باعتباره أداة روائية وأجنحته التي تتيح الكتابة خارج حدود الواقع. ويرسم هذا المحور خريطة جديدة يعاد فيها تأسيس السرد العربي على لغة الحلم، بثرائها الرمزي وانفتاحها على التجريب.
لا يكتفي ملتقى "الحلم في الرواية العربية" بالجلسات الأكاديمية، بل يوسع دائرة التلقي عبر زيارات ثقافية إلى متحف باردو ومركز الموسيقى العربية والمتوسطية في سيدي بوسعيد، إضافة إلى لقاءات مفتوحة مع الكتاب والضيوف.
في نهاية المطاف، يقدم الملتقى هذا العام قراءة جماعية للحلم باعتباره لغة جديدة لفهم العالم، ومساحة لإعادة بناء السرد العربي من الداخل، بما يليق بتعقيدات اللحظة الثقافية التي نعيشها.
إقرأ المزيد


