خامنئي يقاطع ترمب
هذا اليوم -

كانت معركة غزة الصاعق الذي فجّر أعوام الإعداد والاستعداد وخطابات إزالة "الكيان" من الوجود (أ ف ب)

تتنقل تبريرات "حزب الله" في لبنان لتمسكه بسلاحه وتنظيمه العسكري بين سقفين، أولهما معلن وفحواه مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وثانيهما مُضمَر وقوامه الدفاع عن المذهب والاستقواء على أبناء الطوائف والمذاهب الأخرى، في بلد قامت صيغة نظامه على توازن دقيق بين فئات عدة يحكمها نظام برلماني ديمقراطي.

على أن للسقفين عموداً واحداً يسندهما، فمن من دون جمهورية النظام الإيراني ينتهي الحزب ولا يعود لأي خطاب يتقنه أي قيمة.

إيران الخمينية التي أنشأت هذا الحزب وموّلته ودرّبت عناصره وسلّحتهم، هي التي تحددّ له أدواره التي عليه لعبها، وترسم له واجباته ومهماته التي ينبغي أن ينفذها، أكان ذلك في "مواجهة إسرائيل" وتوحيد "الساحات" في وجهها، أو في مواجهة العرب ودولهم وأنظمتهم وخوض الحروب ضدهم في المنابر وعلى الأرض، تحت غطاء من كيل التهديد للأميركيين بطردهم من "غرب آسيا" التي إذا "جاءوها عمودياً فسيرحلون أفقياً" على قول أمين عام "حزب الله" السابق حسن نصرالله في أحد خطاباته الحماسية.

أوصلت إيران نفسها ومريديها إلى ساعة الاختبار، كانت معركة غزة الصاعق الذي فجّر أعوام الإعداد والاستعداد وخطابات إزالة "الكيان" من الوجود، وضعت هجمة غزة الخطاب والخطط الإيرانية موضع التجربة، دخلت "حماس" المعركة التي سينضم إليها "حزب الله" عاجلاً ومعه حوثيو اليمن و"الحشد" العراقي، وسرعان ما استقطبت إسرائيل دعماً دولياً لا حدود له عزز قدرة إسرائيل على تدمير غزة وجعلها تنتقل إلى "إبادة" خصومها الآخرين.

في لبنان دمرت قدرات "حزب الله" الأساسية، وفي اليمن نسفت حكومة الحوثي بعد سلسلة ضربات مميتة، وفي العراق حيث الثقل الإيراني البارز فهم قادة الميليشيات بتوجيه من مرشديهم أن عليهم الانكفاء باكراً، ثم كانت الضربة الكبرى في الهجوم الإسرائيلي على طهران الذي توجته أميركا بقصف الموقع النووي الأبرز في فوردو.

انتهت معركة طهران إلى وقف للنار قرره الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وانتهت معركة لبنان باتفاق إذعان وافق عليه "حزب الله"، وتوجت حرب غزة بإقرار خطة ترمب، وفي الأثناء سقط نظام الأسد في سوريا وخرجت إيران من بلاد الشام.

لم يحصل اتفاق إسرائيلي – إيراني، ولم تستجب إيران "التي أثخنتها الجراح" لشروط الولايات المتحدة الثلاثة: وقف التخصيب وضبط البرنامج الصاروخي والكف عن دعم الميليشيات التابعة في الإقليم.

بقيت العلاقة الإيرانية - الأميركية معلّقة على الحبل الإسرائيلي، وفيما راكمت طهران الأحاديث عن استعدادها للعودة إلى التفاوض، عبر وسطاء عرب سعوا فعلاً إلى استعادة الحوار الدولي- الايراني، إلا أنها واصلت التمسك بما تعتبره عناصر قوتها: التخصيب والصواريخ والميليشيات التابعة.

يعرف النظام الإيراني أن قبوله التفاوض على البنود الثلاثة يعني انطلاق موجات من الاعتراض الداخلي ضده ربما تؤدي إلى إسقاطه، في ظروف تزداد فيها الأوضاع الاقتصادية والمعيشية صعوبة، وهو يستغل فرصة الهدنة القائمة منذ الـ25 من يونيو (حزيران) الماضي، من أجل ترميم قدراته العسكرية الداخلية والإقليمية، ويرفع في الوقت نفسه سقف التحدي في وجه الأميركيين، من دون أن يعني ذلك حتمية العودة إلى ما قبل السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، فالمعركة مع إسرائيل كانت مكلفة جداً.

التصعيد الإيراني يبلغ ذروته الخطابية على لسان المرشد علي خامنئي عندما يجزم أن لا مفاوضات مع أميركا ولا رسائل، وينحو ممثلوه مسالك مختلفة، لكن متشابهة في إسداء التوجيهات لميليشيات المحور.

في العراق، عملت طهران على تأمين فوز مرشحيها بالكتلة الأكبر في مجلس النواب، ونشرت وسائل إعلام رسمية إيرانية تحليلات في أعقاب صدور نتائج الانتخابات العراقية، تدعو صراحة إلى الاستيلاء الطائفي الكامل على السلطة والانتهاء من مرحلة مشاركة المكونات الأخرى.

لم تعد المواجهة مع إسرائيل عنواناً لمعركة السيطرة الإيرانية على العراق، وموقف طهران هناك يلتقي في العمق موقفها من الوضع اللبناني، فهنا أيضاً تبدي تمسكها بسلاح "حزب الله" الذي لا يواجه إسرائيل، بهدف ضمان فرض سيطرته على البلاد، بما في ذلك عبر انتخابات نيابية مقبلة لا يُنتظر أن تحدث انقلاباً في الموازين، بسبب وجود السلاح في أيدي القوة الناخبة الموالية لإيران.

من هذا المنطلق، وليس من منطلق التحريض على هجوم يشنه "حزب الله" ضد إسرائيل يفترض فهم التصريحات الإيرانية الداعمة للحزب والمهولة بقدرته وعزمه على استئناف حربه ضد الإسرائيليين، فهذه التصريحات يمكن أن تعزز أوراق إيران التفاوضية مع أميركا وإسرائيل، لكنها في الواقع تؤدي مهمة وحيدة: الإمعان في إضعاف الدولة الوطنية اللبنانية وتثبيت سلطة الدويلة التابعة لإيران، تماماً كما في العراق أو في اليمن.

كل المسؤولين الإيرانيين تبرعوا بتصريحات عن حاجة لبنان إلى ميليشيات الولي الفقيه. آخرهم مستشار المرشد الأقرب علي ولايتي الذي استفاض في شرح مهمات تلك الميليشيات ومسؤولية إيران تجاهها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أكد ولايتي أن طهران لن تتخلى عن خيار دعم "حزب الله"، ورأى أن نزع سلاحه يحمل "نتائج كارثية"، ولفت ولايتي إلى "أن وجود ’حزب الله‘ بات بالنسبة إلى لبنان أهمّ من الخبز اليومي".

وشدد على أن "إيران دعمت وستواصل دعم ’حزب الله‘ وجبهة المقاومة".

أثارت تصريحات المستشار الأول ومسؤولين إيرانيين آخرين غضباً على أعلى المستويات في لبنان، وأظهرت للعالم أجمع عمق التدخلات الإيرانية في هذا البلد والصعوبات التي تثيرها في وجه محاولات استعادة الحياة الطبيعية ووقف الاعتداءات الإسرائيلية والانصراف إلى بناء المؤسسات الشرعية وحل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية المتراكمة.

لكن الأمل بوضع حد لتلك التدخلات يبدو ضئيلاً في ظل الخوف الذي يعيشه اللبنانيون بين حدّي الحرب الإسرائيلية والتهديد الإيراني بإثارة حرب أهلية، ولا يُنتظر في ظل موازين القوى الداخلية القائمة واستمرار "حزب الله" في تحدي الدولة أن يتم التوصل إلى حلول، فالوضع القائم هو نتيجة، إلى حد كبير، لحاجة إيران إلى حماية نظامها ومرشدها، ولبنان هو، في استراتيجيتها، خندق متقدم للدفاع عن هذا النظام، حرباً أو تفاوضاً.

لقد بلغ التوتر والخوف في أوساط القيادة الإيرانية أشده في الأوان الأخيرة.

وزير الاستخبارات الإيراني إسماعيل الخطيب قال صراحةً إن "العدو يسعى إلى القضاء على المرشد الأعلى"، وإن الحملة على إيران تشمل "هجمات إلكترونية ومحاولات إثارة اضطرابات اجتماعية وتضليلاً إعلامياً".

وإذ أكد أن خامنئي هو "ركيزة ومحور" إيران، أضاف أن "العدو يحاول استهداف القيادة أحياناً من خلال الاغتيالات، وأحياناً أخرى من خلال هجمات تُنفذ من داخل البلاد".

وفي مقال لها هذا الأسبوع كتبت صحيفة " إزفستيا" الروسية تشرح جوانب المخاوف الإضافية التي يواجهها النظام، فرأت أن "هناك أسباباً للاضطرابات في إيران، فالبلاد تعاني جفافاً لم تشهد مثله منذ 60 عاماً.

وإضافة إلى نقص المياه، تخشى إيران نشوب مواجهة جديدة مع إسرائيل، وقد ظهرت تقارير إعلامية تُشير إلى أن تل أبيب مستعدة لتكرار الحرب على طهران، ولاحظت الصحيفة الروسية أن السلطات الإسرائيلية مستاءة من تقارير تفيد بأن إيران استعادت أخيراً قدراتها الصاروخية، وأنها على وشك استعادة مخزوناتها من الأسلحة، فضلاً عن محاولتها إعادة تسليح حلفائها، لا سيما "حزب الله‘".

في ما تكتبه الصحيفة الروسية، ويعترف به المسؤولون الإيرانيون على نطاق واسع، ما يفسر الخطاب الإيراني المتوتر في تمسكه بـ"حزب الله" المسلح والقوي، وبـ"الحشد الشعبي" العراقي الذي عليه أن يمسك بالسلطة كاملةً، وما يفسر أيضاً خطاب المرشد الموجه إلى الداخل أكثر مما يستهدف أميركا أو الغرب.

فإزاء تمسك الولايات المتحدة بشروطها للتفاوض مع إيران واستعدادات إسرائيل لاستئناف الحرب ضدها، سارع خامنئي إلى محاولة شد عصب الداخل الإيراني وطمأنة "المحور"، فنفى وجود أي اتصال مع أميركا.

قال المرشد في أحدث ظهور له الأسبوع الماضي "إنهم يختلقون إشاعات بأن إيران، الحكومة الإيرانية، أرسلت رسالة إلى أميركا عبر دولة ما، هذا محض كذب، لا وجود لمثل هذا الأمر قطعاً".

ومضى خامنئي يقول "الأميركيون يخونون حتى أصدقاءهم، أي إنهم يخونون من يعدّونهم أصدقاء، يدعمون العصابة الصهيونية الإجرامية الحاكمة في فلسطين، وبسبب النفط والمعادن تحت الأرض، هم مستعدون لإشعال الحروب في أي مكان في العالم، وقد وصلت هذه النزعة إلى أميركا اللاتينية اليوم، ولا يليق البتة بدولة مثل الجمهورية الإيرانية أن تسعى إلى إقامة علاقة أو تعاون مع مثل هذه الدولة، قطعاً".

وجه خامنئي رسائل إلى الجيران الأقرب واستعان بحالة فنزويلا لشرح موقفه القاطع تجاه أميركا، بعد سماحه سابقاً بحوار معها لم تأت نتائجه كما يرغب.

أنكر المرشد في الوقت نفسه جهود رئيس الجمهورية مسعود بزشكيان واتصالات وزير خارجيته عباس عراقجي وأحاديثهما عن الاستعداد للتفاوض، مما يشير إلى عدم تبدل الموقف الأميركي وفشل إيران في التهرب من الشروط الثلاثة التي أبلغها المفاوض الأميركي قبل حرب يونيو (حزيران) إلى طهران.

في مناخ كهذا، لا يبقى أمام بزشكيان سوى الانصراف إلى الاهتمام بشؤون المياه والبيئة في العاصمة، ليقفز إلى الواجهة مستشارو المرشد للشؤون الاستراتيجية والعسكرية، متحدثين عن دعم "حزب الله" و"الحشد العراقي" وكل من يلزم لإزعاج ترمب وخططه في المنطقة والعالم، وتدفيع الجوار العربي أثماناً إضافية.




إقرأ المزيد