عودة المتنبي الغريب
هذا اليوم -

تمثال المتنبي في "شارع المتنبي" (ويكيبيديا)

لو عاد المتنبي فهل كان سيفهمنا؟ هذا المساء شوهد المتنبي في "شارع المتنبي" ببغداد، يا سبحان الله المتنبي يتجول في المتنبي، مشى قليلاً في زحمة الشارع، ثم توقف، نظر في وجوه المارة التي لم تتعرف عليه، هو أبو الهول لا أبو الطيب، نظر إلى بعض بنايات الحي العتيقة في منطقة باب المعظم، وجدها متهالكة وحزينة، ثم صمت قليلاً، تأمل ثانية الوجوه التي تمرّ بمحاذاته من دون الانتباه إليه، كانت شبيهة البنايات متعبة من الحروب المتواصلة والصراعات الطائفية وفساد الحكام، فبكى وهو العزيز الدمع، ثم تقدّم بعض خطوات وسمع الناس يقولون: هذه قناة تلفزيونية عالمية تنصب كاميرتها لتصور الحركة اليومية في أهم وأعرق شارع في بغداد "شارع المتنبي". وإذ سقطت العبارة في أذنيه: "شارع المتنبي" اقترب أكثر من الصحافي! لم يفهم شيئاً مما كان يُبربر به الصحافي، تذكر على الفور أبي حيان التوحيدي، لم يدرِ لماذا تذكر التوحيدي و"الامتاع والمؤانسة"، ومع ذلك مشى خلف المصور ذي اللحية الطويلة، وهو ينتقل من مكتبة إلى بسطة إلى طاولة مليئة بالكتب، الشارع كله كتب، تذكر كتاب "الحيوان"، لماذا تذكر كتاب "الحيوان"؟ قال المتنبي في نفسه وهو يتأمل كل هذه الكتب المعروضة: أترك هولاكو بعضاً من الكتب؟ وكان سعيداً لهذا المنظر ولهذا الحضور الذي يملأ الشارع حيث يجلس البعض أو يقرفص مقلّباً أوراق الكتب التي تتراكم بعضها فوق بعض في فوضى جميلة، تقدم من بسطة عليها مجلدات كثيرة فتناول منها مجلداً وتفاجأ إذ قرأ على غلافه بحروف مذهبة وشبه غريبة ولكنها مفهومة: "ديوان المتنبي"! بيد مرتجفة فتح المجلد، صعبت عليه قراءة هذه الحروف المطبعية المعاصرة، ثم أعاده إلى مكانه، تراجع قليلاً وجلس غير بعيد على رصيف الشارع يراقب الزبائن وهم يقبلون الكتب على البسطة، يقرأون العناوين ثم يمضون، والديوان في مكانه، الطلبة يفاصلون البائع ويشترون بعض الكتب التي أغلفتها مزوقة، الروايات بالأساس كما فهم من حديث البائع، مرّ مصور القناة الأجنبية فأثارته هيئة المتنبي وحضوره الغريب في هذا المكان الضاج، اقترب منه، قائلاً هل تسمح لي بإجراء مقابلة معك، لم يفهم المتنبي من كلام المراسل شيئاً، إلا أن شيخاً تدخل وبصعوبة استطاع أن يشرح للمتنبي رغبة الصحافي في طرح سؤال عليه، فوافق، سأل الصحافي المتنبي: كم مرة في الأسبوع تزور شارع المتنبي؟ شارع المتنبي! أجابه المتنبي: لم أزر بغداد منذ أزيد من ألف سنة! استغرب الصحافي كلام الرجل الغريب، لم يفهم الصحافي مقصد كلام الغريب أو اعتقد بأنه مختل عقلياً فتركه لحاله متسمراً على الرصيف ومضى لاستجواب بعض الذين تحلقوا حول الكاميرا.

ظل المتنبي جالساً على الرصيف حتى سقط الظلام، وبدأ باعة الكتب يجمعون بسطاتهم وآخرون يغلقون أبواب مكتباتهم وآخرون يركنون طاولات كتبهم ذات العجلات في أماكن خاصة بها، لم يشترِ أحد "ديوان المتنبي"! بدأ الكتبي في جمع كتب البسطة وترتيبها في كرتون بعد أن ينفض عنها بعض الغبار واحداً واحداً، حين نفض الغبار عن "ديوان المتنبي" وأعاده إلى الكرتون حزن المتنبي وغادر "شارع المتنبي".

تغيرت بغداد كثيراً، حتى دجلة ما عادت دجلة، تبدل ماؤها وضفتاها، بخطى ثقيلة سار حتى مدخل الشارع، وقف عند تمثال كبير منصوب على قاعدة أسمنتية عالية يطل على نهر دجلة الحزين الذي بدا جافاً ومريضاً، غادرته الأسماك والبنات وغناء الصيادين، ثم نظر إلى التمثال قائلاً: ما هذا الصنم؟ دقق النظر في هيئة الشخص المنحوت، فضحك من شكله ومن لحيته، وحين هم بالمضي استوقفته كتابة منقوشة على قاعدة التمثال، فاقترب وقرأ: "أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي * وأسمعت كلماتي من به صمم"، ابتسم المتنبي قائلاً: هذا مني، هذا كلامي، وعاد ورفع نظره إلى التمثال قائلاً: أما هذا فلست أنا، أنا لست صنماً أنا المتنبي!

مشى على شاطئ دجلة حتى شعر بالإعياء، نظر إلى السماء فقال: كل شيء تغير في بغداد إلا نجومها، هي النجوم ذاتها. جلس عند عتبة حانة صغيرة، كان الذين بداخلها من الزبائن غارقين في دخان السجائر يتحدثون في السياسة والحكامة والأحزاب والعشائر، وعن انتخابات برلمانية قادمة وعن كيفية اقتسام الكعكة الوطنية وتوزيع المناصب، وحول طاولة أخرى كان أحدهم يتحدث عن شاعر اسمه بدر شاكر السياب، وحين سكر قليلاً، بدأ يقرأ بصوت عال قصيدة "المطر"، ضحك المتنبي من القصيدة ثم مضى.

حين لم يجد بغداد في بغداد، ولم يبقَ من المدينة التي يعرفها سوى شبح دجلة، وشبح اللغة العربية ونجوم معلقة في سماء ملوثة، قرر السفر في اليوم التالي إلى مصر، وقد شعر بشوق غريب إلى كافور: ربما سأجد الإخشيدي لا يزال سلطاناً على مصر فمثل أبي المسك لا يموت.

عند صباح اليوم التالي، شوهد رجل غريب السحنة واللباس والحذاء يمشي في خان الخليلي، كان بعض الأطفال والمراهقين يتنقلون من مقهى إلى آخر حاملين على رؤوسهم وبين أذرعهم مجلدات كتب يعرضونها على الزبائن الغارقين في فناجينهم وفي الجرائد وفي أصوات الراديوهات وآلات التسجيل وهي تبث من دون انقطاع أغاني أم كلثوم تارة، وتلاوة المقرئ الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، الجميع مغرم بأحد الصوتين أو بالإثنين معاً، مشى المتنبي بين الأزقة والدهاليز الضيقة والجميع يتسوقون أو يتفرجون، محلات كثيرة بها حوانيت لبيع كل شيء، نساء متعبات تجرّنّ أطفالاً ورجال يصلون على النبي في كل لحظة، والناس تحيي الناس من بعيد بأسمائهم وكأن الجميع يعرفون الجميع.

توقف المتنبي عند مقهى عريق به حركة غير عادية، كتب على واجهته بخط الرقعة والثلث: مقهى الفيشاوي، كان غاصاً بالزبائن، معظم الزبائن يبدو عليهم ملامح الباشوات، يتحلقون حول رجل تجاوز السبعين بلباس عصري، نحيف، هادئ، لا يتحدث إلا قليلاً، كانوا يستمعون إلى كلامه بتركيز شديد، تسلل المتنبي إلى داخل المقهى، واتخذ له مكاناً غير بعيد من مجلس الرجل السبعيني وجمعه، ثم أصاخ السمع إلى حديث الخواجة، وإلى أسئلة مريديه، لم يفهم المتنبي كثيراً من حديثهم، كانت غالبيته باللهجة المصرية، لكن ما استطاع أن يفك معناه هو أنهم كانوا يتحدثون عن شيء اسمه "الرواية" التي تبدو وكأنها أخذت بعقول الجميع، تخيل ما يتحدثون عنه وكأنه يشبه نثر "الحيوان" للجاحظ  أو "تاريخ الرسل والملوك" للطبري، أو "رسائل إخوان الصفا"، أو "الأدب الصغير" و"الأدب الكبير" لابن المقفع، أو "الإمتاع والمؤانسة" لأبي حيان التوحيدي، أو "رسائل ابن العميد"، أو "رسائل الصاحب بن عباد"، أو "عيون الأخبار" لابن قتيبة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 لم يذكر أحد عنواناً من هذه الكتب التي شغلت المتنبي، بل كانوا مأخوذين بعناوين غريبة على سمعه: "ثرثرة فوق النيل"، و"أولاد حارتنا"، و"ميرامار"، و"قصر الشوق"، و"خان الخليلي"، وكان كبيرهم الذي حوله يتحلقون يتحدث عن هذه العناوين بكثير من التفصيل، والذين من حوله يستمعون بكثير من التركيز، بين الفينة والأخرى يطرح أحدهم سؤالاً باحترام وتردد، يرشف الرجل السبعيني، أو هكذا بدا، من قهوته ثم يرد بهدوء على السؤال. سمع النادل يقول: هذا موعد مغادرة نجيب محفوظ باشا المقهى.

نظر السيد الذي يسمى نجيب محفوظ إلى ساعته ثم حيا الجميع وانصرف، هي ساعة الانصراف المضبوطة، وظل الذين كانوا من حوله يتحدثون ويبربرون، وقد غيروا نقاشهم من موضوع الرواية إلى السياسة، وبدا بينهم كثير من الشحن، كل يتعصب لرأي، وكل يريد أن يسبق الآخر إلى محطة ما، الانتخابات على الأبواب أيضاً وكل يبحث عن أصبع عسل!

غادر المتنبي مقهى الفيشاوي وسار في خان الخليل بحثاً عن قصر كافور الإخشيدي، دار المدينة لم يجد شيئاً من بقايا هذا الحاكم، توقف قليلاً عند مشهد آل طباطبا ثم مضى، شوارع المدينة كلها مغطاة بصور الزعيم، تارة بلباس عسكري وأخرى بلباس مدني عصري، تارة مبتسماً وتارة حائراً، بعض الصور كانت تغطي جداراً كاملاً وأخرى متوسطة وأخرى كثيرة ملصقة على السيارات والحافلات، حين سأل المتنبي أحدهم عن صاحب الصورة، قيل له هذا هو القائد، أدرك بأن كافور الإخشيدي لم يعد في البلد، ربما يكون قد مات أو نسخ في هذا الحاكم.

قضى المتنبي يومه يدور في شوارع الفسطاط، لكن اللغة التي كان يسمعها لم تكن لغة أهل الفسطاط، تغيرت اللغة كثيراً، الناس يبربرون في جمل مخترقة بالكلمات الغريبة، بين محل تجاري وآخر كانت محطات الإذاعات تبث بصوت عال من خلال راديوهات بعض الإعلانات عن منتوجات غريبة ونشرات أخبار وأغانٍ بلغة ما كان للمتنبي أن يفهمها، بين كلمة وأخرى هناك كلمة أجنبية أو محلية.

خرج المتنبي من خان الخليلي، مشى حتى أدرك مقام السيدة زينب، سمع آذان الفجر، صلى، ورفع يديه ثم قال قبل أن يطير بعيداً: "كل شيء تغير في بلاد العرب، من مصر إلى الشام إلى بغداد، اللغة والعمران والمركوب ولباس الناس رجالاً ونساء، إلا شيئاً واحداً لم يتغير: عطش المثقف للسلطة. إن المثقفين العرب اليوم يختلفون عني في كل شيء، فقد غطى الغبار دواويني، ولغتي سقطت من على لسانهم أو كادت، إلا في أمر واحد كنت عليه، وظلوا يحتفظون به ويصرون عليه: العطش إلى السلطة والتقرب من السلطان، فجميع سلاطين العرب اليوم كافور وجميع المثقفين يرددون أمامهم: "أبا المسك هل في الكأس من فضل أناله * فإني أغني منذ حين وتشرب".




إقرأ المزيد